إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اما بعد
مع الاستراحة الوثيرة في الجلسة المتكئة لنساء في مصر، أمرت امرأة العزيز يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- بالخروج لتجعل تفكيرهن كبحرٍ مضطرب يرتفع ويموج، فماذا حدث حينها؟ وكيف صار يوسف -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- مثال الثبات أمام إغواء هذا المرأة وتزيينها.
إغراءات الخروج واللقاء، وإغواءات قلبٍ سما وارتقى
أصدرت امرأة العزيز أمرها ليوسف -عليه الصلاة والسلام- بالخروج عليهن {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}.. [يوسف:31] وهذا يقتضي أنه كان في بيت آخر، وكان لا يدخل عليها إِلا بإذنها، وعدي فعل الخروج بحرف (على) لأَنه ضمن معنى (ادخل) لأَن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه، فكأنه كان في بيت آخر لعله أشار على العزيز أن يبعده فيه اتقاء لشر تلك المرأة ومكرها، ودبرت لهن متكأ قريباً من مكانه، وباغتته حينها فطلبت منه الخروج على ضيفانها، وهو لا يعلم بمكرها، فقد مُكِر به وبهن، فامتثل ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه، وبادر الخروج عليهن.
والآية تدل على أمرٍ في غاية الإحسان والإخلاص عند هذا الشاب المكرم الطيب الأنفاس، فإن اشتياق هؤلاء النسوة لرؤيته يدل على أن الشاب كان منذ دخل القصر يتقي أن يلتقي بالنساء أو أن يظهر على من قد تورثه صحبته الذنب والبأساء..آهٍ يا نبي الله أيها المكرم:
يوسفُ- صلى الله عليك وسلم وعلى أنبياء الله أجمعين-
كل هذه السنوات التي تعيش فيها في هذا المجتمع الجاهلي الممتلئ بالدنس، وأنت تتقي أن تراك أمثال هؤلاء العابثات.. أي صدقٍ تكتنزه في صدرك، وكيف حميت نفسك من أماكن الشبهات.. أي عملٍ مخلص تباهي به الملائكة والصالحين، وهنا نعلم لماذا وصف الله تعالى طفولة يوسف بما يشتاق كبار القانتين أن يوصفوا به حينما قال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.. [يوسف:22].
سقوط العقول وتقطيع الفؤاد الذهول
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} ومعنى {أكبرنه} أعظمنه، أي: أعظمن جماله وشمائله، فالهمزة فيه للعد، أي: أعددنه كبيراً، وأطلق (الكبر) على عظيم الصفات تشبيها لوفرة الصفات بعظم الذات، فدُهشن لذلك الحسن الرائع، والجمال البارع، وغبن عن شعورهن بما آتاه الله من الحسن الكامل المدهش حتى قيل: كان يوسف إذا سار في أزِقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يُرى نور الشمس من السماء عليها. وهو كما وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وقد رآه ليلة الإسراء- فيما رواه مسلم: (ففُتح لنا، فإذا أنا بيوسف -صلى الله عليه وسلم- إذا هو قَد أُعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لى بخير).
قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور، ينبهر بين ثناياه، ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل.
والذي يظهر أن مجرد الحسن في الجسد والكمال في الوجه لا يؤدي إلى هذه الحالة الفريدة التي حدثت لهن، ولكن الذي يؤدي إلى تلك الحالة هو أن يجتمع الكمال الإنساني في الجمال الجسماني مع آثار الخضوع والاحتشام، ويجتمع الحسن في الوجه والقَوام مع مهابة الاستقامة والالتزام، وعدم الاعتداد بهن، فاقترن الجمال العظيم بتلك الهيئة الفخيمة ذات الهيبة العظيمة.
عندها أخذ هذا المنظر المدهش ألبابهن، وسلب عقولهن وأبصارهن حين رأينه، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}.. [يوسف:31]، فجعلن يقطعن أيديهن حزاً حزاً بالسكاكين التي معهن، ما يعقلن شيئًا مما يصنعن، فقد كانت في أيديهن سكاكين مع الطعام، سواء أكان فاكهة أم لحماً، فقطعن أيديهن، بدلاً من تقطيعِ ما يأكلن، ذهولاً عما يعملن، بأن اسمرت حركة السكاكين الإِرادية بعد فقد الإرادة على ما كانت عليه قبل فقدها، وبدلا من أن تقع السكاكين على الأكل وقعت على أكف شمائلهن، وقد سقط منها ما كان فيها من استرخائها بذهول تلك الدهشة، وسالت الدماء، والتضعيف في قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَ} يدل على التكثير، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر، فقطعتها أي: قطع جرح أطلق فيه لفظ بدء الشيء على غايته، فأريد بالقطع الجرح للمبالغة في شدته حتى كأنه قَطع قطعة من لحم اليد. والظاهر أن مضيفتهن تعمدت جعلها مشحوذة فوق المعهود في سكاكين الطعام مبالغة في مكرها بهن؛ لتقوم لها الحجة عليهن بما لا يستطعن إنكاره. وكأنهن قلن لها عند ذلك: كيف نلومك على حبّ هذا الشاب، ونحن قد قطعنا أيدينا وسالت الدماء منها!، ونطقن عند ذلك نطق المدهوش {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} وهذا تركيب عربي جرى مجرى المثل، يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه، وأصل (حاشا) فعل يدل على المباعدة عن شيء، فهي كلمة تفيد معنى التنزيه، والمعنى ها هنا: تنزيه اللَّه تعالى من العجزِ والتعجب، حيث بلغت قدرته العظيمة أن يخلق جميلاً عفيفا مثل هذا الشاب.
عبادة الصور أساس المعاصي في العشي والبُكَر، وأصل اختراق الشيطان لمكامن الحذر
ولأنهن يعبدن الصور، وقد حجبهن ذلك عن رؤية حكمة العلي الكبير المقتدر قلن: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.. [يوسف:31] أي: قلن لا يمكن أن يكون هذا بشراً؛ لأنهن لم يرين في حسن صورته من البشر أحداً، فقلن: لو كان من البشر، لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر، فقد فاق البشر في الحسن جداً، وفي الوقت ذاته أعرض عن الشهوة من غير علة مانعة له مع كونه في غاية القوة وكمال الرجولة، فكأنه قيل: فما هو إن لم يكون بشراً؟ فقلن: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}، وإنما شبهن ما رأينه من الحسن العظِيمِ بالمَلك؛ لأَنه استقر في الطباع أن لا حي أحسن من المَلك، كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان، ولذَلك قَال تعالى في صفة جهنم {طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.. [الصَّافَّاتِ:65]، فلما أرادت النسوة المبالغةَ في وصف يوسف عليه السلام بالحسن شبهنه بالمَلك مع ما هو معروف من تأله الملائكة وتعبدها وارتفاعها عن بواعث المحرمات، وهو الذي ظهر في حياء يوسف عليه السلام وعدم التفاته لإغرائهن -ثم من بعدُ- لإغوائهن، وبهذه الكلمات منهن صار حالها وحالهن كما قال الشاعر:
أبـصره عاذلـــي عليـــهِ ولم يكـــن قَبلـها رآه
فقَال لي لو عشقت هذا ما لامك الناس في هواه
فَظل من حيث ليس يدرِي يأمر بالعشق من نهاه
فانظر إلى "إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها، ويستنكرن موقفها، وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار، الذي يشجعها على الاعتراف الكامل، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها. ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن: {حاش لِلَّه ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}.